لطائف الاستفهام: بلاغة تتجاوز السؤال إلى يقين الإجابة

19/06/2025
القرآن الكريم وطلاب العلم
244 مشاهدة
د. مصطفى يعقوب

 لطائف الاستفهام: بلاغة تتجاوز السؤال إلى يقين الإجابة

الهدف الرئيس من المقال: إظهار الإعجاز البياني في أساليب الاستفهام القرآني وكيف تشكّل بابًا عظيمًا من أبواب اليقين في كتاب الله تعالى

الاستفهام القرآني.، سؤال يحمل الإجابة

الاستفهام في البلاغة العربية ليس مجرّد طلب للعلم بشيء مجهول، بل يتجاوز ذلك إلى معانٍ وأغراض أعمق وأبعد، ولعلّ القرآن الكريم هو المثال الأبلغ في توظيف هذا الأسلوب البياني بصورة معجزة تتجلّى فيها أسرار التعبير الإلهي، فالاستفهام القرآني يحملنا على التأمُّل والتفكُّر؛ ينتقل بنا من ظلمات الشك إلى نور اليقين، ومن حيرة التساؤل إلى طمأنينة الإجابة، يقول ابن القيم في "بدائع الفوائد": "ومن تأمّل استفهامات القرآن وجدها من أبلغ الكلام، وأحسنه سياقًا، وأدلّه على المعنى المقصود، وأقربه إلى إفهام السامع وإقناعه".

اللطائف البلاغية للاستفهام القرآني

تتنوع أغراض الاستفهام في القرآن الكريم بتنوع المقامات والسياقات، فتارةً يأتي للتقرير، وتارةً للإنكار، وأخرى للتعجُّب، وغير ذلك من الأغراض البلاغية التي تُظهر إعجاز النظم القرآني وبلاغته الفريدة.

الاستفهام التقريري.، رحلة من الشك إلى الإقرار

من أبرز صور الاستفهام في القرآن الكريم الاستفهام التقريري الذي يُراد به حمل المخاطب على الإقرار والاعتراف، ونلمح ذلك جليًّا في المشهد الأزلي العظيم الذي صوّره القرآن في قوله تعالى: ﴿أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدۡنَآ﴾ [الأعراف: 172]، لم يكن استفهامًا عن جهل، بل كان استفهامًا لتقرير المعرفة الفطرية في أعماق الذوات البشرية بربوبية الله تعالى.

يقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في "التحرير والتنوير": "والاستفهام تقريري، والمقصود منه تقرير الذوات البشرية بأنّ الله ربّها، وهذا إقرارٌ منهم بأنّهم خلق الله وعبيده، وفي هذا تمهيد لوجوب عبادته وطاعته".

وتأمّل كذلك قوله تعالى: ﴿أَلَمۡ نَشۡرَحۡ لَكَ صَدۡرَكَ﴾ [الشرح: 1]، فهو استفهام تقريري يُؤكِّد النعمة على النبي ﷺ بشرح صدره، وليس سؤالًا عن حصول الشرح أو عدمه، بل هو تذكير بمنّة من المنن الإلهية العظيمة التي أنعم الله بها على نبيه.

الاستفهام الإنكاري.، ميزان العقل والفطرة

ومن ألوان الاستفهام في القرآن الكريم الاستفهام الإنكاري الذي يُراد به إنكار الواقع أو المُتَوقَّع، وهو أسلوب بليغ يُشعِل جذوة التفكير ويُثير كوامن العقل لاستنكار ما هو باطل ومنحرف.

يقول تعالى: ﴿أَفَمَن يَخۡلُقُ كَمَن لَّا يَخۡلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 17]، إنه استفهام يحمل في طياته معنى النفي المؤكَّد، أي: لا يستوي مَن يخلق ومَن لا يخلق، وبذلك يُبْطِل عبادة الأصنام، ويُوبِّخ من يعبدها، ويُحرِّك العقول لتميِّز بين الخالق والمخلوق.

ويقول الزمخشري في "الكشاف": "هذا استفهام وارد على سبيل الإنكار والتوبيخ، وهو أبلغ من النفي الصريح؛ لأنّه يجعل المخاطب كأنّه يُنكِر التسوية بين الخالق وغيره فيستحق التوبيخ".

وفي السياق ذاته، يأتي الاستفهام الإنكاري في قوله تعالى: ﴿أَفَنَجۡعَلُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ كَٱلۡمُجۡرِمِينَ مَا لَكُمۡ كَيۡفَ تَحۡكُمُونَ﴾ [القلم: 35-36]، فالاستفهام هنا يستنكر التسوية بين المسلمين والمجرمين، ويُوجِّه العقول إلى ضرورة التمييز بينهما في الجزاء والمصير.

التعجُّب والتشويق.، أبواب الوجدان

الاستفهام التعجُّبي.، صرخة الفطرة وانبهار العقل

ومن لطائف الاستفهام في القرآن الكريم الاستفهام التعجُّبي الذي يُعبِّر عن الدهشة والاستغراب، ونراه في قوله تعالى على لسان المؤمن في سورة يس: ﴿وَمَا لِيَ لَآ أَعۡبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ﴾ [يس: 22]، إنه تعجُّب من حال مَن يُعرِض عن عبادة خالقه ومبدعه، وكيف يليق بالعاقل أن يكفر بمَن أوجده من العدم وأسبغ عليه نعمه!

يقول سيد قطب في "في ظلال القرآن": "إنها صرخة الفطرة المستنكرة لغرابة أن يُعرِض الإنسان عن عبادة من فطره وأنشأه، وغرابة أن يتّخذ من دونه آلهةً لا تملك له نفعًا ولا ضرًّا".

ومثله قوله تعالى: ﴿وَمَا لِيٓ أَدۡعُوكُمۡ إِلَى ٱلنَّجَوٰةِ وَتَدۡعُونَنِيٓ إِلَى ٱلنَّارِ﴾ [غافر: 41]، فهو استفهام تعجُّبي يُعبِّر عن استغراب مؤمن آل فرعون من موقف قومه الذين يدعونه إلى الكفر والنار، في حين أنه يدعوهم إلى الإيمان والنجاة.

الاستفهام التشويقي.، مفاتيح الانتباه وإيقاظ التدبُّر

ويأتي الاستفهام في القرآن الكريم للتشويق وإثارة الانتباه وتهيئة النفس لتلقّي ما سيأتي بعده، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡحَآقَّةُ﴾ [الحاقة: 3]، فهو استفهام يُشوِّق السامع لمعرفة ماهية "الحاقّة" (يوم القيامة)، ويلفت نظره إلى عظمتها وهولها، ويُهيِّئ نفسه لاستقبال ما سيُذكَر بعد ذلك من أوصافها.

يقول الإمام الرازي في "مفاتيح الغيب": "وهذا الاستفهام غرضه التفخيم والتعظيم، والمعنى: أيّ شيء أعلمك ما القيامة وما أهوالها، فهو استفهام يُراد به التهويل".

ومثله كثير في القرآن الكريم، كقوله تعالى: ﴿مَا ٱلۡقَارِعَةُ ٱلۡقَارِعَةُ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡقَارِعَةُ﴾ [القارعة: 1-3]، وقوله: ﴿إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةِ ٱلۡقَدۡرِ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا لَيۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ﴾ [القدر: 1-2]، فهذه الاستفهامات تُهيِّئ النفس وتُشوِّقها وتُحفِّزها على التدبُّر والتفكُّر.

الاستفهام بين التذكير والتحدي

الاستفهام التذكيري.، صحوة الضمير ولمسة القلب

ويأتي الاستفهام في القرآن الكريم للتذكير والعظة، كما في قوله تعالى: ﴿فَهَلۡ مِن مُّدَّكِرٖ﴾ [القمر: 17]، فهو استفهام يدعو إلى التذكُّر والاتِّعاظ بمصير الأمم السابقة، ويحثّ على الاستفادة من قصصهم، ويستثير الهمم للتدبُّر والتفكُّر.

يقول ابن كثير في تفسيره: "أي: فهل من متّعظ بما أصاب هؤلاء فيجتنب مثل طريقتهم لئلا يصيبه مثل ما أصابهم، وهذا من لطف الله بخلقه أنه يذكر لهم عقوبات الأمم الماضية ليحذروا من مثل ما ارتكبوه".

ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: ﴿أَلَمۡ يَأۡنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن تَخۡشَعَ قُلُوبُهُمۡ لِذِكۡرِ ٱللَّهِ﴾ [الحديد: 16]، فهو استفهام يُذكِّر المؤمنين بضرورة الخشوع والرقّة عند ذكر الله تعالى، ويحثُّهم على تطهير قلوبهم من القسوة والغفلة.

الاستفهام التحدِّي.، دعوة العقل للاختيار

ويأتي الاستفهام في القرآن الكريم للتحدِّي وإظهار البرهان، كما في قوله تعالى: ﴿هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [الزمر: 9]، فهو استفهام يتحدّى العقل البشري أن يُسوِّي بين العالِم والجاهل، ويدفع إلى إعمال الفكر والتأمُّل في قيمة العلم وأثره.

ومن ذلك قوله تعالى: ﴿أَفَمَن كَانَ مُؤۡمِنٗا كَمَن كَانَ فَاسِقٗا لَّا يَسۡتَوُۥنَ﴾ [السجدة: 18]، فهو استفهام يتحدّى العقل أن يُساوي بين المؤمن والفاسق، ويدعو للتفكير في عدالة الله التي تقتضي التمييز بينهما في الجزاء.

الاستفهام القرآني.، صياغة متفرِّدة ومناسبة للسياق

إنّ من أبرز وجوه الإعجاز البياني في الاستفهام القرآني دقّة صياغته ومناسبته للسياق، فالله تعالى يختار الأداة المناسبة، والتركيب المناسب، في المكان المناسب، بما يُحقِّق الغرض البلاغي المقصود.

تأمّل الفرق بين "الهمزة" و"هل" في الاستفهام القرآني؛ فـ"الهمزة" تأتي للتصوُّر والتصديق، أمّا "هل" فتأتي للتصديق فقط، ولذلك نرى غلبة استخدام "الهمزة" في الاستفهام الإنكاري، مثل: ﴿أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِ﴾ [النمل: 60]، و﴿أَغَيۡرَ ٱللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّٗا﴾ [الأنعام: 14]، في حين نرى غلبة استخدام "هل" في الاستفهام التقريري، مثل: ﴿هَلۡ جَزَآءُ ٱلۡإِحۡسَٰنِ إِلَّا ٱلۡإِحۡسَٰنُ﴾ [الرحمن: 60].

ومن دقائق الاستفهام القرآني تكراره في بعض المواضع لتأكيد المعنى وتقريره، كما في قوله تعالى: ﴿ٱلۡحَآقَّةُ مَا ٱلۡحَآقَّةُ وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡحَآقَّةُ﴾ [الحاقة: 1-3]، فالتكرار هنا يُفيد التفخيم والتهويل، ويُؤكِّد عظمة يوم القيامة وهوله.

الاستفهام القرآني في حياتنا.، من التدبُّر إلى العمل

إنّ استفهامات القرآن الكريم ليست مجرّد أساليب بلاغية للتأمُّل النظري، بل هي دعوات عملية للتفكير والتغيير، فهي توقظ القلوب من غفلتها، وتُحرِّك العقول من جمودها، وتُنير الطريق أمام السالكين.

حين نتأمّل قوله تعالى: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثِۭ بَعۡدَهُۥ يُؤۡمِنُونَ﴾ [المرسلات: 50]، ندرك أنه استفهام يدعونا للتفكير في قيمة القرآن الكريم وأهميته، وضرورة الإيمان به والعمل بما فيه، فهو دعوة للتدبُّر الذي يقود إلى اليقين، ثم العمل الذي يُترجِم هذا اليقين إلى واقع حيّ.

وحين نتدبّر قوله تعالى: ﴿أَلَمۡ نَجۡعَلِ ٱلۡأَرۡضَ مِهَٰدٗا وَٱلۡجِبَالَ أَوۡتَادٗا﴾ [النبأ: 6-7]، ندرك أنه استفهام يدعونا للتأمُّل في نعم الله علينا، وآياته في الكون، وقدرته المطلقة، ممّا يقودنا إلى الشكر والعبادة.

ختامًا.، الاستفهام القرآني وعمق اليقين

لطائف الاستفهام في القرآن الكريم تكشف عن بلاغة فريدة، وأساليب متنوعة للتأثير في المتلقّي، وإثارة فكره، وتحريك مشاعره، وتوجيه سلوكه، وهذا التنوع والإعجاز في استخدام أسلوب الاستفهام بأغراضه المختلفة يزيد المتدبِّر يقينًا بأنّ هذا القرآن من عند الله تعالى، وأنه معجز في استفهامه وأسلوبه، كما هو معجز في كل جوانبه.

إن أسلوب الاستفهام القرآني يمثّل بوابة عميقة من بوابات اليقين التي متى ولجها المتأمِّل وجد فيها من الإعجاز البياني ما يزيده إيمانًا وتسليمًا، فكلّما تعمّق في تدبُّر ألفاظه ودلالاته وسياقاته، أدرك أنّ وراء هذه الكلمات حكمة بالغة وقدرة لا متناهية؛ فسبحان من أنزل كلامًا محكمًا متقنًا حتى في أسلوب طرح أسئلته!